الفكر الإسلامي
الرفق وحسن الخلق في الدعوة
بقلم : معالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر(*)
لست بطبيب لكنني أقرأ ما تفتق عنه العقل
البشري، وأدرك بعض الحِكَم وأسرار شرع الله، ومعجزاته في خلقه سبحانه، وأبرز ما
يخص الإنسان في جسمه، وما يحصل لدى كثير من العلماء: مِن كَشْف بعض عجائب هذا
الإنسان، الذي يبرز بين حين وآخر لدى فلاسفة الشرق والغرب، بعض أسرارها، وقدرة
الله في جزئيات هذا الجسم.
وما أودع الله فيه من عجائب وأسرار تهدي
للخالق سبحانه، فمنهم من هداه الله للدخول في الإسلام، ومنهم من عاند، كما حصل من
الوليد بن المغيرة، الذي أبان الله حكايته مع رسول الله بعد حرصه كل ليلة على سماع
القرآن الكريم، استراقاً للسمع في الليل - والرسول صلى الله عليه يصلي - فكان
يستوعب ذلك جيداً؛ لكنه كابر وفكر وقدر، بماذا يصف هذا القرآن للتنفير، بعدما سمعه
مراراً من فم رسول الله، في هدأة الليل وهو العربي لساناً. وما ذلك إلا أن القرآن
الكريم أنزله الله بأفصح ألسنة العرب، وهي لغة قريش والوليد قرشي: ففكّر وقدّر كيف
يصف ما سمع بعد أن أعجبه بيانه، وطغت على مشاعره فصاحة القرآن الذي سمع، وأخذت
بمجامع فكره دلالات آياته؛ فإن قال: سحر فما هو بسحر؛ لأنه يعرف السحر وتأثيراته،
وإن قال: شعر فما هو بشعر؛ لأنه يفوق في بلاغته ما نطق به أفصح الشعراء، وإن قال:
يأتى به فئة من الشياطين والجن، فما فيه من أخبار الأمم السابقة واللاحقة لا
يستطيع الشياطين أو الجن أن يعروفها.إذن، لابد أن يبحث عن شيء، يقنع به الناس،
فقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (المدثر آية 24) بعد أن قلب الأمور
كلها ليوهم الناس، وليصدهم عن اتباع هدى الله، معاندة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصداً عن دين الله، وتنفيراً لمن يريد إدراك
ما بين الله عن حاله وعناده، وتبياناً للقراء حتى يعرفوا ما كشف الله سبحانه من
صفاته وعناده فعليهم أن يقرأوا: أول سورة المدثر، وأول سورة ن والقلم وما يسطرون وما
بسطه المفسرون عن حالة هذا المعاند المتكبر، الذي عرف الحق وعَمِل جهده في صد
الناس عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من عند ربه، فهو حق لا مراء فيه،
ولا يقبل الجدل؛ بل أعجب من ذلك فهمه الدقيق لما وصفه الله جل وعلا، من صفات كلها
اعترف بها؛ إلا واحدة لا يعلمها إلا أمّه، ضمن صفات عديدة اقتنع بها، وصدقها،
فأراد التثبت منها، وشهر سيفه ودخل على أمّه قائلاً: خبريني عن أبي من هو؟! لأن
محمداً وصفني بصفات، كلها أعرفها عن نفسي، إلا قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ
زَنِيمٍ} (القلم آية 13) وهو لا يكذب.
والعُتلّ المتكبر الجبار، والزنيم ولد الزنا،
وحسب ما سمعت منه؛ فإنّ المغيرة ليس هو أبي، فمن هو أبي؟ إنْ لم تخبريني بالحقيقة
من هو أبي قتلتُك ثم قتلْتُ نفسي؟! فقالت له: على مهلك، المغيرة ليس أبوك، وقد كان
عقيماً لا يولد له، وهو غني، فَخِفْتُ على ماله الضياع، فمكّنت نفسي من فلان
الصانع فهو أبوك الحقيقي؛ لأنني حملتُك مِنْه، ومن باب تمكين الأمر كما قال علي
رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون حتى لا يكذّب الله ورسوله. فقد قلت: مَنْ
أراد أنْ يعرف التفاصيل، عن سيرة الوليد هذا، فليقرأ ما قاله المفسرون عنه، في تفسير
الآيات التي في صفته أول سورة القلم، والآيات التي أبان الله بها مكابرته وصدّه عن
اتباع الحق في أول سورة المدثر. أردت إيراد هذه المعجزة التي وضحها الله سبحانه في
القرآن الكريم، الذي يُتلى إلى يوم الدين، للعظة والاعتبار وللهدي والاتباع كما
قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
(محمد آية 24). وقد فضح الله الوليد، وغيره من المعاندين لشرع الله، للاعتبار
والعظة، وأن الله يظهر في كل زمان ومكان آيات؛ لتكون حجة على البشر، سواء كانت في
النفس البشرية، أو في المجتمع أو في ما يدور بالمجتمع كما قال سبحانه:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ} (فصلت آية 53).فآيات الله تكون في النفس، وفي القريب وفي المجتمع وفي الأمم؛
لأن الله سبحانه غيور على نعمه، ويسوق الآيات والنذر لتقوم الحجة، فهو يمهل ولا
يهمل، ولعل من يتجرأون على الفتيا، وعلى القول على شرع الله بغير الحق أن يراجعوا
أنفسهم قبل الفوات.وأذكر بهذا نفسي وإخواني القراء وغيرهم؛ لأن بعض البشر طغوا
وتجبروا، وطعن كثير منهم في شرع الله، ومسوا جوهر دين الله، ومثالياته، فمنهم من
إذا سِيقت لهم العبر والنذر، يتعظ ويرجع للحق ويستغفر الله، ومنهم من يعاند ويصر
على تجاوزه، ومنهم من يهلكه عناده ومجاهرته، ومنهم من يملي الله له، ليزداد إثماً
على إثمه {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}
(الكهف آية 49)، ومن عنت له نفسه التمادي، فعليه أن يتدارك قبل فوات الأوان، لعل
الذكرى تنفع، وتتحرك الضمائر، من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين: {وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات آية 55). ورسول الله صلى الله عليه وسلم ،
في دعوته كان صبوراً وحليماً، فيحسن بطالب العلم، أن يتأسى به عليه الصلاة
والسلام، في الدعوة والتبيين برفق وعلم، وينبه لعل الله يحقق على يديه بما فيه
مصلحته؛ لأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.وقد أعجبني
أسلوب هادئ ومقنع، من شخص أظنه طبيباً مع طبيب آخر، ومن طريقة الحوار يتبين تأثير
الرفق وحسن الخلق في التعامل، بسرعة الإقناع، والوصول إلى الهدف، قرأت هذا في إحدى
المجلات. وقبل أن أسوق تلك أورد بعضاً مما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،
إذْ مرّ عليه صلى الله عليه وسلم مصائب كثيرة، جاءت في
السيرة النبوية، وفي شمائله عليه الصلاة والسلام، التي منها تحذيره من أن يحل
بأمته داء الأمم من قبلهم، كما حذرهم من الفتن.
ومن ذلك عندما ذهب للطائف، يدعو قبيلة «ثقيف»
وغيرها، فقد آذوه وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم، فرموه بالحجارة حتى أدموا عثبيه
الشريفتين، وفي عودته إلى مكة في الليل صلى ودعا ربه، ومما جاء في دعائه وتسليمه
الأمر لله سبحانه قوله: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على
الناس، إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي ورحمتك أشمل من ذلك وكان أهل مكة قد آذوه
قبل ذلك، فأرسل إليه ملك الجبال، وسلم عليه وقال له: هل تأمرني بأن أطبق على أهل
مكة الأخشبين، وهما الجبلان العظيمان بمكة، حيث توجد مساكنهم؛ لكنه كما وصفه ربه
بالرأفة والرحمة {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح آية 29) فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: بل دعهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله، ويعبده، والآيات
والنذائر يسوقها الله في كل بلد ومع كل أمة، ومن رحمة رسول الله بأمته، فقد طلب من
ربه ألا يهلك أمته بسنة عامة كما أهلكت الأمم السابقة؛ ولكن تأتي النذائر في
النفوس وفي الأولاد وبالنقص في الثمرات، ونزع البركة، وبالجوع والخوف، وبغيرها من
الأمور العديدة لعل القلوب ترق، والألسنة تدعو والأفئدة تعود إلى الله أقول هذا
عندما بدأت الفتن تبرز، والجرأة على الفتوى تظهر، وتسلط من لا خلاق له على أم المؤمنين
حبيبة رسول الله، بالسب والقذف وعلى والدها الصديق، صاحب رسول الله في الغار
بالبهتان، وإيذاء رسول الله بذلك وبالنيل من أصحابه وهم خير القرون. ونبرأ إلى
الله من أعمالهم، فقد شابهوا أهل الكتاب بإيذاء أنبيائهم {وَلاَ تَحْسَبَنَّ
اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} (إبراهيم آية 42). وإذا عدنا لما وعدنا به، في أسلوب
دعوة طبيب مسلم لطبيب ملحد، يقول المسلم: كنت نائماً في حديقة بيتي، فجاء ضيف عرفت
أنه طبيب نساء وأمراضهن، فاعتذرت إليه لصعوبة قيامي لاستقباله، جاء يسألني هل صحيح
ربنا موجود؟ فأراد أن يصرفه عن سؤاله. فرد عليه في انفعال: يوجد صبي يعاني من
التهاب في الزائدة الدودية؟ اعمل معروفاً قم وأجر له العملية، فحالته في خطر وأنا
عاجز عن القيام كما ترى، قال: أنا أحمله وسيارتي تحت أمرك لابد من غرفة عملية
معقمة، قلت: الزائدة في حجم الإصبع، ولابد لها من غرفة عمليات؟ فقد أحب أن يقنعه
بما هو مألوف لديه قال له: رحم الله أمهاتنا تلدنا في غرفة لا تدخلها الشمس، قال:
الوضع يختلف، إن جسم المرأة يتحول عند الوضع للمولود، إلى مستشفى متكامل، فيه كل
ما يلزم في غرفة عمليات المستشفى الراقية، قلت له: كيف ذلك؟ وظل يتحدث علمياً
(بغير اللغة العربية) أحياناً عن مضاعفة عدد كريات الدم البيضاء في جسم المرأة عند
الولادة، وتكاثرها عدة مرات، لقتل الجراثيم التي تدخل جسم المرأة عند الولادة،
ويضاعف الجسم من المادة التي تساعد على التئام الجرح في المشيمة، كل ذلك وقاية من
النزيف، ويسميها الأطباء (مادة اللّفين لتخثر الدم). ومثل هذا لا يحصل للرجال في
الحوادث، وفي غرفة العمليات عند النزيف، إلا بتزويده بهذا العقار، والمرأة تكون
عندها معجزة من الله عن النزيف.قال: وعندما تحدث دكتور النساء كُنت أستمع إليه حتى
انتهى.فسألته: هل الخلايا تعلم الغيب؟ فتستعد قبل بدء حادث الولادة، بما ينجي
المرأة؟قال مجيباً: هكذا صُممت، قلت له: صُممت فعل مبني للمجهول، حاول بناءه
للمعلوم؟ قال: هكذا خلقها الله، هكذا خلقها الله، ثم قال: لقد وصلنا للنتيجة التي
أريدها من أقرب طريق وهو اعتراف منه بوجود الله سبحانه. قال الطبيب المحاور: لقد
فرحت لكلمة من أقرب طريق؛ لأنني أؤمن أن كل مهنة يمكن أن للعامل فيها بأن يكون
مُلحداً إلا الطب، فإن رأيت طبيبًا مُلحداً ينكر وجود الله فهو مأجور أو مجنون؛
لأنه يرى جسم الإنسان تنشط فيه، كريات الدم البيضاء، تقتل كل جسم غريب داخل
الإنسان، فإذا لم تنجح كريات الدم تنتحر فينشأ الصديد من جثتها، وأعجب من ذلك أن
كريات الدم البيضاء، والمضاد الحيوي يرى النطفة التي هي بدء خلق الله للجنين، تسير
ثمانية أيام في جسم المرأة، من مكان التخصيب إلى القرار المكين في الرحم. فلماذا
لا يقتله جيش المقاومة في جسم المرأة؟ ولماذا ينجو الحيوان المنوي فقط، وما ذلك
إلا أن الله سبحانه وتعالى، جعل خاصيّة في المقاومة هذه: يعرف العدو من الحبيب،
وصدق الله في قوله الكريم: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدَى} (طه آية 50) وهو القائل جل وعلا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ} (الذاريات آية 21). (المجلة ص361 - 362). فسبحــان مـن خص المرأة بما
يلائم مكانتها ووظيفتها، وأعـطى الـرجل ما يتلاءم مع فطرته القائل: {وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالأُنثَى} (آل عمران آية 36).
* * *
(*) مستشار سماحة مفتي عام المملكة العربية
السعودية ورئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن
دارالعلوم ديوبند ، رجب 1432هـ =
يونيو 2011م ، العدد : 7 ، السنة : 35